تلك مباهج غالية، فلا تُفرِّط فيها !
" تلك مباهج غالية .. فلا تُفرِّط فيها "
سأذهب بك في رحلة عجيبة ومُذهلة!
الَّذي أرجوه منك أن تعيش معي الأحداث كلها، ثم تنظر لنفسك ...
وتتأمل مليّا !
في لحظةٍ واحدة وأقل من الثواني، كنت سأصبح يتيمة!
نعم يتيمة الأبوين
كنت سأستيقظ وأنا وحيدة في هذا المنزل الكبير! وغريبة أيضًا !
لا عمود البيت قائم، ولا أُنس البيت حاضر
وكنت سأبقى طول العُمر في عتب شديد على تفريِطي لمباهج غالية جدًا
لكنَّها الدروس الكبيرة التي ندفع ثمنها اليوم ..
نتعلم منها غدًا فنكبَرُ كثيرًا !
.
.
.
انتهت وليمة العشاء قام واستأذنهم بالرحيل من المُناسبة
خرجوا جميعًا، ولم يعلموا أن تلك الكلمات التي في المجلس رُبما تكون
هي الحروف الأخيرة، والابتسامات الأخيرة، والتوصية الأخيرة !
من يعلم !
ملك الموت يدور على العباد جميعًا دون أن يشعر أحد ..
وإذا نزل الأمر من السماء انتهى كُل شيء ( في لحظةٍ واحدة !)
.
.
.
ثُم بدأت تفاصيل تلك الرحلة المُذهلة !
بدأت بمُكالمة سريعة مُضطربة خائفة بـ ( أمي وأبي الآن نُسعفهم )
ثم لا يبقى بعدها إلا قلبٌ يهتف بـ ( إنا لله وإنا إليه راجعون )
اللهُ أكبر من مخاوفنا وأحزاننا وكُل شيء .. في ودائع الله
اللهُمَّ خيرًا !
الطريق طويـل جدًا للمشفى .. ليس بالمسافة، إنما بالشعور !
.
.
.
الجميع مكتظ ينظر للباب .. ماذا ؟
هل نُقيم العزاء ؟
- لا يوجد رد
هل يمكننا رؤيتهم ؟
- لا يوجد رد
هل هم على قيد الحياة على الأقل نتصبر بذلك !
- لا يوجد رد
حينها يذهب الكُل .. ويبقى الله -سُبحانه-
يبقى الرُكن الذي يستجيب لنا هو ( الله )
إن لم يُجبنا الأطباء .. فربُ الأطباء سيستجيب لنا !
.
.
.
الباب مُغلق .. العيون تنظر متى يُفتح
وإن فتح نهض الجميع ... لكن لم يكن المطلوب !
الليل طويل .. وبارد وأيضًا موحش
لك أن تتخيل ! أن تعود للبيت الكبير فلا تجد فيه أحدًا !
السُرج مُطفأه، الباب الذي كان فيه الأنس قبل ساعات
والسُرج مضيئة ورائحة العطور الزكيّة .. مُغلق، وكأنهُ هُجِر منذ أعوااام!
تنظر إلى الباب ليُفتح فيخرج الطبيب بكلمة واحدة إما حياة أو موت ...
لا يوجد رد !
كيف نعود للبيت ؟
بهِم أم بدونهم ؟
الهدوء يعلوا المكان .. والضجيج كان في الداخل!
الحقيبة في يدي أنفض تراب الحادث منها، وأفتحها فإذا كُل شيء
بها سليم:
الساعة
السبحَة
الخاتم
الحزام
ثم مضى بي التأمُّل !
الذي أخرج هذه وهي جمَاد من حادث شنيع جدًا
ألا يُخرج عبدين موحديِّن كانا صائمان لله !
بلى وهو القادر سبحانه ...
.
.
.
زادت حلكة الليل، والقلب يحتاج أن يسكُن ليطمئن !
استأذنتهم بالدخول لأراهما ! لا بأس سأتقبل أشكالهما وحالتهما ..
المهم ألا أخرج حتى أراهما !
وطبعًا .. تم الرفض على طلبي
تخيل!
أن يكون الفاصل بينك وبين أبويك جدار، وقطعة قماش،
بينك وبينهما حاجز لا تستطيع أن تُبعد هذه القطعة لتتأمل وجه أبويك !!
الوجه الذي فرّطت أنا وأنت في الجلوس أمامه أياااامًا كثيرة
وأعوامًا مديدة ..
أتى يوم لم يكن بالحُسبان أني سأعيشه تمنيت لو أن الدنيا بأكملها وزخرفها جميعها تحت قدمي ..وأنظر لهم ولو للحظة!
فلا يأتِ عليك يومٌ مثلي فتندم كثيرًا على لحظات فرّطت فيها بالتأمل
في تجاعيد وجه أبويك!
.
.
.
ثم جاءت الفُرصة الذهبية التي تمنيت أن أخسر كُل شيء لأجلها
"أُذن لي بالدخول عليهما"
لكن بشرط !
أن تكون نظرة سريعة من عند قطعة القماش تلك!
وأن يكون الخروج بعدها إلى البيت ... ذلك البيت المهجور
والسُرج المطفأه فيه !
لكن مع ذلك رضيت أن تكون نظرة سريعة، تُطمئن قلبي
أنهم لازالوا على قيد الحياة !
النظرة الأولى:
كانت لوجه تلك التي سهِرت ليالٍ كثيرة على تربيتي،
وقامت ليالٍ كثيرة تُناجي الله بصلاحي
لذلك الوجه الذي حينما تتأمل فيه كثيرًا، ترى تفاصيل الجُهد
والتعب عليه من التربية، والقيام بالحقوق والواجبات و و و...
تلك الملامح الطاهرَة، النقيّة، التي صبرت لأجل الابن، وضحكت لأجله،
وتألمت لأجله، وبكت لأجله ...
تلك الملامح التي فرَّطَ في تأملها البعض إلا من رحم الله ووفقه ..
تلك الملامح التي قصّرنا كثييييرًا في إسعادها، وإبهاجها
تتأمل!
فتبقى الحَسرة تعلو القلب ... كم فرطّنا في الجلوس معك
ليالٍ كثيرة ...
هذه الملامح كانت ملامح أُمي
لكنِّي نظرت فكأني أنظر لأحد آخر غيرها !
لقد كان الحادث شنيعًا.. بما فيه أنه غيّر الملامح التي اعتدتها على أُمي!الرأس ... الرأس ماذا ؟ لا أراه ..
كان مفتوح كاملًا يا سبحان الله ولازالت تتنفس ويدخل الأكسجين لها .
العين اليسرى ... العين؟ لا توجد،
أرى فقط لونًا بنفسجيًا شديدًا وعينًا غائصة جدًا
لا أعلم هل هي موجودة أم قد ذهبت !
الجسد مُغطى .. لا أعلم هل ستعود للمشي مرةً أُخرى !
أم أنها ستصحب الكرسي المتحرك طيلة حياتها ...
لله الأمر كُله ... الأمر الوحيد الذي أبهجني
" أني رأيت نبضات القلب، وأنها تتنفس .. الحمد لله "
.
.
في السرير المُجاور
الذي لا يفصل بينهما إلا قطعة القماش الرخصية تلك
كان رفيق دربها وعُمرها ...
النظرة الثانية:
لوجه ذلك الذي نصب ظهره للعمَل للُقمة عيش أبناءه،
للوجه الذي صبر على الشمس وحرَّها ليخرج بدراهم قليلة جدًا
حتى يُطعم صغارًا يبكون في انتظاره!
للوجه الذي كسى الشيب رأسه، فتعلم أنه من الهموم والمصائب
التي صبر عليها لأجل أبناءه!
هذه الملامح ملامح أبي
ولكنِّي حينما نظرت له ... لم أعرفه !
يا للصدمة!
أن تحاول أن تتعرف على لمحة.. على شيء واحد .. فلا ترى !
الجسد مليئ بالأجهزة
الوجه .. لا أعلم كأنه وجه آخر تمامًا
الدم يخرج عن يمينه ويساره !
اللهم سلِّم سلِّم !
كل هذا ...
وتتحسُّر لحظتها على أيام كثيرة لم تُحسن له كما أحسن إليك
وأقل ما في الأمر!
أنك لم تخرج بالصورة التي ربَّاك عليها وعهدك عليها ..
فإذا ذُكر اسمك وقُرن بإسم أبيك كانت الفشيلة !
يا للحسرة .. كم فرّطنا في مباهج كثيرة وغالية !
لحظتها دفعت ثمن كُل ما قد أسأت فيه ...
فلتتعزى بمُصيبتي يا هذا ولتقُم وتنفض غبار العتب عن والديك
وتقصيرهما و و و ...
والزم الــزم قدميهما بكل ما يطلبون ويأمرون
فوالله أني تمنيت لحظتها أن أخسر كُل ما أملك، من مكانة ووظيفة،
ومال، وكُل شيء ... وأن تعود لحظة واحدة ألزم قدميهما
وأطلبهما الرضا وأبرهما !
.
.
.
بعد هذا كُله .. تخيَّل كيف ستكون لحظة دخولي للبيت !
وكيف تكون أول ليلة !
أعتقد أنك ستقول أنها ستكون مُوحشة وصعبة و و ...
نعم كانت ستكون كذلك لولا لُطف الله بعبده!
لا أعلم كيف مضت تلك الليلة بطولها ووحشتها، وبرودتها
كان اللُطف يحيط بقلوبنا، وحُسن الظن به ألا يُخيبنا فيما نؤمل وندعو
ثُمَّ ..
أشرقت الشمس كالمُعتاد طبيعية .. لكن ذلك اليوم كان مُختلفٌ تمامًا
لم أسمع ( لا إله إلا الله في المنزل بتلك النبرة القويَّة التي يعلوها قوَّة
التعلق بالله والتوحيد به )
لم يطرق عليّ أحدٌ الباب للصلاة !
كانت بداية يوم غريبة .. تحمل تفاصيل موجعة
.
.
.
النظرة الثانية في اليوم الثاني:
للقلب الحنون، وأنس البيت ...
لمست كفيّها الناعمة، النقيَّة
يا الله ! كم فرّطنا حتى في مُلامسة تلك الأيدي !
وتقبيلها .. وضمَّها !
ثُم أتبعت ذلك بسؤال بعد تأمل طويـل
أُمي .. هل تعلمين من أنا ؟!
نظرت إلي بنظرة كانت تُغني عن كُل الكلمات وكُل التعابير
وكُل المباهج أيضًا !
ولِسانُ الحال كأنه يقول:
أتسأليني هذا السؤال ؟
أنتِ صغيرتي، وقطعة من قلبي، أنت لُطف قلبي وبهجتي ...
فقالت بنبرة تؤكد كل ذلك من خلف الاكسجين:
مرام ...!
لبيك يا سعدي، ويا مُقلتي، ويا قطعة القلب وبهجته
لبيك وكأن اسمي لم يزدد حلاوةً إلا بنطقك له
كانت من أسعد لحظات عُمري .. بل من أجمل حياتي كلها
وكأن اسمي اليوم وهذه اللحظة فيه حلاوة وبهجة
يا أُمي لا تقلقي، الله أرحم بك مني، ومن قلبي الصغير الذي كاد
يخرج حينما هتفتي باسمه
يا أُمي قولي لا حول ولا قوة إلا بالله، قولي اللهُ أكبر
فهو أكبر من هذا الألم كله، ومن هذا الأنين، ومن الأطباء، ومن كُل أحد
قولي اللهُ أكبر في قضاءه خيره وشره !
اطمئني يا صاحبة القلب النقيّ، واصدحي بكلمة التوحيد
ففيها النجاة وفيها الأُنس
قولي لا إله إلا الله تُفلحي
الله أرحم، وأكبر .. وسيُنجينا من هذا كله قريبًا !
فاطمئني ..
ومع هذا فإنك تتعجب ! كيف يُفرّط أحدنا باستمتاع
سماع اسمه حينما يُنادينا أحدهما . .
بل أنها قد تمضي علينا لحظات في وسط أشغالنا وهمومنا ويُنادينا أحدهما فنُجيب بنبرة عااالية ..
فيُفهم أننا في انزعاج منهما !
يا للحسرة ! كيف أننا لم نتلذذ بنداءاتهم حين الطلب !
ونُردد بشوق ولهفَة للأجر والقُربة من الله لبيك يا سعدي
ويا قطعة القلب ..
فخُذها منِّي!
فلقد جربت لحظتها، فوجدت أن الدنيا بحذافيرها لم تكن تساوي لحظة أن تُنادي وتهتف باسمي !
.
.
.
أُجريت عملية التجميل في رأسها، لكنَّ وجهها النقيّ هو من جمَّلها
لم تكن تلك العمَلية !
وحالها الآن جيّد الحمد لله من قبل ومن بَعد
تتكلم، لم يحصل شيء لذاكرتها، تتحرك، ترى ...
نعمة عظيمة تستحق الشكر دائمًا وأبدًا !
كانت في الطابق الثالث
ورفيق دربها في الطابق الأعلى لا يفصل بينهم إلا سقف
إلا درج صغير جدًا ...
أصبح الآن في العناية، ذهبنا نسترق النظر من خلف ذلك الزجاج
فإذا بصوتٍ خافت جدًا يقول لأخي:
طبيًّا ! لا يوجد أمل ... الرئتان تنزف، الرأس فيه ضربةٌ شديدة،
الأقدام لا تتحرك، هو لا يتحرك !
حينها لك أن تتخيل أن الأمل بالله الشافي زاد زاد كثيرًا،
أن يعجز الطب كله عن مساعدة شخص مُلقى على السرير لا يتحرك ..
فلن يعجز عنه رب الأطباءجميعًا!
لأنّه الرحيم سيشفي ..
لأنه العليم سيشفي ..
لأنه الحليم سيشفي ..
لأنه القدير سيشفي ..
لأنه الله سيشفي ..
مع الله ستُمسح أرقام وأسماء الأطباء !
ومعه - سبحانه - ستُنسى مواقع المُستشفيات !
ومعه - سبحانه - ستُلغى مواعيد العيادات !
ويذهب الكُل بعلمهم وأجهزتهم ..
ويبقى واحدٌ في القلّب اسمه : الشافي - سبحانه - ...
* علي الفيفي بتصرف .
امتلأت عيناي بالدمع وقدماي لا تحملاني
التفت للخلف فتلاقت عيني بعينيها
ثم اتكأت على الجدر اتأمل جسده البعيد عنِّي ..
قالت: ماذا يكون لك ؟
- أبي
- هل تحتاجين أن تدخلي عنده ؟
- كانت الدموع لحظتها أبلغ من كُل الكلام
كيف لا أحتاج ؟
بل إن قلبي في شوق أن أتأمل وجهه عن قُرب،
أن أُحادثه وإن كان لا يسمعني .. المهم أن أتحسس قُربه !
فـفُتح الباب وكأنه قلبي الذي فُتِح !
ولم يُسمح بغيري ... يا للكرم والشرف
وإن قلبي كان يسبق خطواتي
فقلت بارتجاف قلبي قبل لساني ...
أنا مرام، ابنتك الصغيرة تذكرتني ؟!
أنا واثقة أنك تسمعني، لكنك لا تستطيع أن تُجيب
لا بأس يا مُقلتي وسندي، هي أيام قلائل وتستطيع أن تُحادثني
وتُمازحني كما في السابق ...
ما رأيك أن تسمع مني آيات قليلة لعل قلبك يطمئن بها كما كُنت تُحب ؟
بعد اذنك يا أبي .. الآن سأخرج لكن اطمئن أنت في رعاية الله
وعنايته قبل عناية البشر
لن يُضيّعك الله، ألم تكن تسعى للأيتام، والأرامل، والإصلاح،
ولا تأخذ على ذلك مُقابل ؟!!
لا بأس عليك، فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء،
وإنك ستجد متُكئًا ولو وقعت .. الحمد لله أن لنا ربًا عَدلًا
لا يُضيع عمَل عاملٍ، ولا سعيَ ساعٍ .. ورحمته أكبر من كل شيء ..
استودعك الله ..
كانت مُحادثة غريبةً من نوعها وفريدة، أن تقف أمام شخص
طريح الفراش لا يتحرك، لا تسمع إلا أصوات الأجهزة المزعجة جدًا
ولا تجد رداً واحدًا أو علامةً على أن كلامك قد سُمِع !
يا للحَسرة ...
كم فرّطنا بالقُرب منهم والجلوس معهم والحديث الطويل معهم!
نُحادث القريب والصديق ونأنس بهم، لكن سُرعان
ما يصيبنا الملل من كثرة أحاديث والدينا وإعادتها !
عجيب أمر ابن آدم!
حينها وددت لو أُعطيه من أوتاري فقط ليُحادثني ولو بكلمة !
الآن أنت رُبما تنعَم بواحدٍ منهما، أو كلاهما !
وتُقصّر في الحديث معهما، والضحك معهما،
والتلذذ بسماع أصواتهما الجميلة ...
أنا وددت لحظتها أن أسمع نبرته، ولو أن يعاتبني
سأقول له الفدا .. لكنِّي خرجت ولم أتلذذ ولو بكلمة واحدة
تجعل قلبي حينها يطمئن ويسعَد ...
.
.
.
يومُ عرَفة .. وما أدراك ما يوم عَرفة !
يوم التعظيم، والتمجيِد، يوم الهِبات والعطايا
ذلك اليوم بالذَّات كان فريدًا جدًا من نوعه
أن تعيش ذلك اليوم بين ضجيج الأجهزة، وأنين الوالدة بجوارك ..
وباب الغُرفة لا يكاد يُغلق من الزوار
كان يومٌ لم يعتد عليه أحد
لا تستطيع أن تذهب لغرفة في منزلك وتبقى فيها لحظة
نزول الرَّب سبحانه عز وجل .. والدعاء والتذلل من غير أن يراك أحد
لا تستطيع أن تأخذ كفايتك من الدعاء بما يجول في قلبك من أُمنيات ..
لكن ربما غفلنا كثيرًا .. عن قُرب الله لنا في كل حيِن وعلى أي وضع كُنا، وعلى أي حالٍ من الأحوال
لا تحتاج فيه لمكان مُنعزل، أو بعيد !
لا تحتاج لرفع الصوت، ولا حتى تنميق الكلام !
كُل ما عليك هو حضور هذا القلب .. والافتقار والذل بين يدي العزيز
والانكسار والتعظيم ..
هذا الذي عليك .. ولو كان الذي حولك خراب ودمار وإزعاج وقلق
فهذا اليوم عظيم .. وغالٍ جدًا .. من فرّط فيه فقد خَسِر !
ومن ضيَّعه لم يستطع أن يبحث عن بديله !
من عرف قدر هذا اليوم وعظمته .. بادر في استغلاله بأي حالٍ يكون
لا أذكر حينها أننا استطعنَا أن ندعوا إلا لهم ..
أن تمضي ساعات يوم عرفة في دعوات خرجت من قلبٍ ينزف ألمًا
أن يُحيي الله عظامهم الرَّميم ..
والواقع كان أشبهُ بالمستحيل
لا الطب الحديث، ولا شهادات الأطباء تستطيع تحريك أجسادهم !
لكنَّه القدير - سبحانه - والجبَّار، الذي يجبر أجساد وقلوب عباده ..
كان الواحد منَّا يستقبل القبلة وقلبه مُعلق بالله، ومُحسن الظن في الذي خلقه، وينظر لأجسادهم ثم يمسح دمع عينه، ويقول يا رب !
يا رب احفظهم لنا ...
.
.
.
اليوم ماذا ..؟
العيد .. صباح عيد مُختلف تمامًا
لم أعلم أنه عيد إلا من التاريخ .. الله المستعان!
كيف لِلهَم أن يُنسي ابن آدم كُل شيء!
ويحجب قلبه عن كل حدثٍ ..
استقبلنا بعضنا بالدموع، لم يستطع أحدنا أن يقول
عيد مُبارك أو سعيد ..
أردنا الفَرح بالعيد وإحياء السُّنة، فكان الذي بالقلب قد حجب عنَّا
كل ذلك فلم نستطع ...
فعلًا وإن فقدت مباهج الحياة كلها، ومعك والديك فأنت حقًا في نعيم!
العيد هو صوت الضحكات منهم، و رائحة العطور الخارجة من غرفتهم، والثوب الجديد، والعيديات منهم
بل إن النظر إليهم كان هو بهجة العيد
فتخيّل أن أحدهما في العناية
والآخر في التنويم !
الحمد لله من قبل وبعد
كيف يأخذ الله منا .. ليُعلِّمنا كيف كُنَّا في العافية والنعيم والنعمة !
فلم نشعر ببهجة العيد إلا حينما فقدنا أساسها ..
فأصبحنا الآن نشعر بقيمة العيد حين نراهما وإن لم نخرج،
ونحتفل و و و ... فوجودهما كان بمثابة بهجة العيد كله!
.
.
.
عاد الأُنس للبيت .. الحمد لله من قبل ومن بعد
لعلها الآن لا تستطيع المشي لفترة قليلة، لكنَّها عادت للبيت
وعادت البَهجة له، واجتمع الشتات قليلًا
مضى الأسبوع، والأسبوعين ... لكن الكُل لم يستطع أن يقوم
مقام عمود البيت!
أبدًا !
وأصبحنا كحال من " فأقبل بعضهم على بعضٍ يتلاومون "
هذا يقول رأي، والآخر يعترض .. ولا أحد يستطيع أن يملك زمام الأمور!
أن تفقد كل شيء .. ويبقى عمود البيت بهيبته وبكلمته المسموعة وبِعدله
وانصافه وحكمته، خيرٌ لك من شتات لا تستطيع أن تُغلق معه قلبك
أو حتى أُذنيك حتى لاتسمع!
هذه المباهج الغالية الثمَن لا تستطيع ادراكها
وأنت تتبع من والدك النقص، وعدم العدل والإنصاف!
أقولها لك بقلبٍ قد ذاق .. هذه مباهج غالية فلا تخسرها!
فلا تُضيِّعها!
فلا تُفرِّط في المحافظة عليها!
.
.
.
انتهى الشهر .. والجسد طريح الفراش، لا يتحرك،
ولا أحد مهما بلغ عِلمه يستطيع أن يتدخل جراحيًا حتى يُصلح الأمر !
أقصى ما يمكنهم فعله، هو تقليبهم لجسده كل يوم،
ووضع الأكسجين حتى يتنفَّس !
هذا أقصى ما يفعله البشر ...
لكنَّ رب البشر ! بيدهِ ملكوت السماوات والأرض،
يُحيي ويُميت، يرفع ويخفض، يبسط ويقبض ..
سُبحانه فما أعظمه من إله !
تخيَّل !
أن ينفض البشر قاطبة أيديهم، وعِلمهم الوثيق،
ويبقى حبلٌ ممدود لا ينقطع بينك وبين الملك -سبحانه-
لن يستطيع أحدٌ أن يقف بينك وبين دعوة صادقة
في جوف الليل البهيم و أكُفٍ رفعت تناجي الله
بألمٍ مصحوب بدموع الضراعة والوجع والتذلل
والضعف أمام خالق الخلق والكون..
الآن ....
وقت أن يتقرَّب كُل واحدٍ منَّا إلى الله (زلفى)
ونجزم أن لا مفر منه إلا إليه وأن الخير بيده،
ونطرق أبوابه دون كللٍ أو مللٍ أو تأففٍ،
فإنهُ كلمَا زاد الرجاء والإلحاح كان الفرج قريبًا بإذن الله..
كم قرّبتنا المِحَن والابتلاءات من الله، وجعلتنا نتيَّقن بقُدرة الله،
وعظمة الله، وحِكمة الله، وقيِّومية الله، وقهَر الله..
وتتعلم في ساعات الابتلاء مالم تتعلمه في سنين العافية،
تتعلم من ساعات وأيام قلائل ما يُغني عن ألف كتاب
ومحاضرة وموعظة !
اللهُ أكبر !
كيف للبلاء أن يُخرج كُل البشر من القلب، ويقطع العلائق منك، ويبقى قصدُك وتوجهك أولًا وآخرًا هو الله
فلله الحمد على بلاء يَرُدنا إلى الله ويحمِل في طيَّاته المِنح .. المِنح العظيمة .
.
.
.
بينما كانت أصوات الأجهزة مُزعجةً جدًا ومرتفعةً ..
كان عند رأسه واضِعًا يده عليه كما أوصانا ﷺ
ويقول بنبرة يعلوها اليقيِن:
(( اللهم رب الناس، أذهب الباس، واشفه وأنت الشافي؛
لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً ))
-لا شفاء إلا شفاؤك- صدق رسول الله ﷺ:
فلا شفاء إلا شفاء الله، فشفاء الله لا شفاء غيره،
وشفاء المخلوقين ليس إلا سبباً، والشافي هو الله،
فليس الطبيب وليس الدواء هما اللذان يشفيان،
بل الطبيب سبب، والدواء سبب، وإنما الشافي هو الله.
نتوسل إليك يا الله بكمال ربوبيتك، وكمال رحمتك بالشفاء،
وأنك وحدك الشافي، وأنه لا شفاء إلا شفاؤك -سبحانك- ..
إنَّه اليقين في الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا،
وأسعد وأشقى، وأوجد وأبلى، ورفع وخفض، وأعز وأذل،
وأعطى ومنع، ورفع ووضع. وحده لا شريك له.
اللهُ أكبر !
الحمد لله كثيرًا
ضجَّ المكان .. وانبهرت العيون .. وازداد اليقين بالله الشافي القادر
-سبحانه-
ها هو الآن يرفع يديه إلى الأعلى ثُمَّ سُرعان ما تنزل
وكأنه يُحاول النهوض، يحاول إخبارنا أنهُ يسمع دعواتنا حوله،
كأنه يُحاول أن يُطمئن قلوبنا ..
يا سُبحان الله !
والله إنَّك لتتعجَب كيف أن كُل هذه الأجهزة الحديثة الضخمة
لم تستطيع أن تُحرك ولو طرف عينه !
و بآيات تُتلى .. يتحرك بها !
" لو أنزلنا هذا القُرآن على جبل لرأيته خاشعًا مُتصدعًا
من خشية الله ..."
جبلٌ، شاهقٌ، عالٍ، ضخم .. في لحظة يتصدع ويخشع
فما بالك بما هو دُونه !
جسدٌ نحيلٌ جدًا .. ويحمل قلبَ مُوحدٍ لله تعالى
ألا يتحرك !
ما أعظمه من كلام وتذكرت قولًا لابن القيم رحمه الله واصفًا كلام الله
- سبحانه - فقال:
" وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف ، وأن تقضي عليه بآراء
المتكلمين وأفكار المتكلفين أشهدك ملِكاً قيوماً فوق سماواته على عرشه
يدبر أمر عباده يأمر وينهى، ويرسل الرسل وينزل الكتب ويرضى
ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويخفض ويرفع
يرى من فوق سبع، ويسمع ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد
موصوف بكل كمال، منزهٍ عن كل عيب ، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه،
ولا تسقط ورقه إلا بعلمه ولا يشفع زهد عنده إلا بإذنه
ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع ".. * كتاب الفوائد صـ ٩٨ .
.
.
.
قلبٌ يُفزَع كُل ليلة .. ودمعة تجري كُل حِين
وكيف لا !
هو رفيق عُمرها، وشريك حياتها، وقُرة عينها ..
مُنذ صغرها وهو كان لها الزوج، والأب، والأخ، والسند، والأهل جميعًا ..
ولسان حالها يقول:
لا أنسى لحظات صراخه من السيَّارة
ولا أنسى أصوات المُسعفين
لا أنسى تفاصيل التفاصيل ..
تتأمَّل طويــلا ثُمَّ تتنهد قائلة " أشتكي لله .. ما على النَّاس شاكي "
قال ﷺ:
" من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته،
ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل "
اللهُ أكبر !
كيف هو يقين كبار السِّن .. قومٌ قطعوا كل عائق وعالق،
وتعلقت قلوبهم بواحدٍ أحد -سبحانه- ..
يؤمنون أن الدعوات إذا صَعدت لا تُرد وهو مُحال !
وكيف لا .. وهم قد شاهدوا من إحسان الله إليهم ما يؤكد أنهُ
لا يُخيب الدعوات، ولا الأكف الذليلة، ولا الأعمال القليلة ..
قد كانوا في شدائدهم يتواصون، إن الله معنا، وإنهُ سينقذنا ..
قلبٌ يُفزع كل ليلة .. ثُم تتبعها بدموع تطلب أن ترى شريك حياتها
ولو من خلف الزجاج أو من عند قطعة القماش الرخصية تلك !
شهر وقد يزيد وهي لا تدري كيف وضعه!
ولم تتلذذ عينيها برؤية تفاصيل وجهه .. وإن كانت التفاصيل غير جيِّدة !
يا لقلبٍ كهذا كيف تحمَّل هذه التفاصيل ...
.
.
.
الحياة حقل أمراض، وأوجاع، وتنهّدات،
لذلك فقد سمّى الله نفسه ( بالشافي ) - سبحانه - !
لتسجد آلامك في محراب رحمته، وتنكّس أوجاعك رأسها
عند عتبة قدرته . .
فإنه الشافي
يشفي بسبب ..
ويشفي بأضعف سبب ..
ويشفي بأغرب سبب ..
ويشفي بما يُرى أنَّه سبب ..
ويشفي بلا سبب!
* علي الفيفي .
قد زادت عدد الأيام على الشهر الذي مضى ..
والقُرآن العظيم بجانبه يُتلى
والذي يأتِ أولًا هو من ينال شرف أن يقرأ بصوته النديّ
على جسد والدنا !
قد تحركت يداه وكأنه يُخبرنا أنه يسمع هذا الضجيج،
لكن لم يكن وقت النهوض قد حان !
الله يُعلمنا، ويُربينا، ويُفهمنا، وكُلما زادت الأيام
كلما كانت الدروس أعظم !
هناك دروس لم نفهمها بعد .. فلم يحن وقت النهوض بَعد !
بدأت عينهُ اليمنى تُفتح شيئًا فشيئًا ..
تلك العين الجميلة التي ازادات جمالًا حينما تأملتها بفرحة النجَّاة !
ياااااه .. ياللحسرة هي جميلة جدًا لكنِّي أنا من فرَّط
في تأملها طويلًا، واسعادها كثيرًا ..
كان يُبصر بها .. لكن نظرته لنا كأنه لا يعرفنا !
كأن لسان حاله يقول:
من أنتم!
لم أنتم حولي هكذا كالمجانين تبكون!
أبي ... هل عرفت هذا الشخص ؟
" كان آخر شابٍّ يُزوجه أبي ويفرح به فرحًا شديدًا قُبيل أيام حادثه "
هذا العريس الجميل أتى من شهر العسل لرؤية وجهك الجميل ..
....
ولازالت النظرات غريبة!!!!
لم نتحمل .. جميعنا أعاد الكمامة على وجهه وبدأ بالبُكاء الطويــل !
كان شعورًا صعبًا جدًا وغريبًا أيضًا
لسان حالنا يقول .. وإذا كتب الله له حياة أخرى بيننا،
هل سيبقى غريبًا بيننا !!
لا يعرفنا !
وربما يزجرنا لأنه مع أشخاص لا يعرفهم !!
لله الأمر من قبل ومن بعد هو يتولى هذا الأمر كله
وخرج كُل واحد منَّا بألف سؤال يدور في رأسه ....
.
.
.
كانت سورة يوسف هي الضِّماد لي في تلك الفترة ..
وليس المعنى تعطيل بقية كلام الله سبحانه
ما قصدتُه أن سورة يوسف بالذات كانت تلك الأيام تُوافق خطة
حفظي الجديد .. سبحان الله!
وكأنك تمشي على خريطة مُحكمة الصنع والدِّقة !
وهي كذلك ..
و لك أن تتخيل!
تلك السورة التي لا يسمعها محزون إلا استراح إليها ...
أوااهٌ على قلبٍ كان ينزف ويتعثر .. وخالطه اليأس
فأتى كلامُ الله لِيَسُد ذلك كله !
الحمد لله على إنعامه علينا بكلامه ..
وإلا كيف لمضغة صغيرة يمكنها أن تستريح وهي في خضم هذه
الأحداث الضخمة !
أذكر أني فتحت دفتري الخاص بالتدبر لكل سورة ..
فلما كتبت العنوان سورة يوسف تأملت طويلًا ماذا أكتب!
فكتبت " إني على يقين أن ما في قلبي سيُجبر - بإذن الله -
في سورة يوسف .. سأفتح ذلك الجرح الثائر لتَسُّده
هذه السورة العظيمة "
و عندما توالت الأحزان في قصة يوسف ما فرجت إلا بعد:
( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) ! * وليد العاصمي
يا رب .. فرجًا كما فرَّجت عن يعقوب ويوسف - عليهما السلام -
.
.
.
ما أعظم الله وأرحمه سُبحانه !
لم يتدخل أحدٌ جراحيًا .. كان الفرج من السماء
فما أعظمه من إله !
كنت اقرأ عليه يومًا
" فأماته اللهُ مائة عامٍ ثم بعثه "
فأبكي كثيرًا .. وأقول يا رب، مائة عام ثم بعثته حتى أن طعامه وشرابه
لم يتغير !
ثُم تُختم تلك الآية الطويلة بـ ( قال أعلمُ أن الله على كل شيءٍ قدير ) ...
فأنت القادر والقدير يا رب، كان لك موحدًا، كان لك صائمًا،
كان يسعى لليتيم ويسد جوعه، ويقضي عن المحتاج دينه ..
اللهُمَّ فلا ترُدَنا خائبين !
اللهُ أكبر! من كل شيء
بدأ ينطق كلامًا لكنه غير مفهوم، فأُنبوبة الطعام تلك، والأكسجين
قد أهلكت حباله الصوتية ..
لكنَّ نسبة الشفاء بدأت ترتفع
بدأ يتكلم في قُرابة الشهر !
وطبيًّا مكتوب أنه لن يفيق من غيبوبته إلا بعد ٨ أشهر هذا وإن كانت
ذاكرته سليمة !
لكنَّه الله .. جل جلاله لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء
- سبحانه - .
كان ذلك اليوم هو عيد لنا الكل حوله، يسأله من أنا ؟ هل تعلم من أنا ؟
وكأننا حوله مثل الأطفال الذين اجتمعوا على والدهم ليُعلمهم ..
أنا مضطرة لأن أقول في نهاية كل حدث ..
( يا للحسرة كم فرّطنا في مباهج كثيرة وغااالية )
فلا تسأم من كلمتي هذه أرجوك..
لكنه الواقع المرير، الذي يعترف به كُل أحد أنه فرّط كثيرًا
كم كانت لمَّة الأهل غالية، ولم نُدركها إلا حينما فقدناها،
وأصبحنا في شتات .. وحينما أفاق نسبيًا عُدنا حوله كما كُنَّا..
وكأننا أطفال !!
تلك اللمَّة الثمينة، النفيسة التي فرَّط فيها أحدنا بالتقليب بالهاتف الرخيص، وبالاتصالات الغير مُهمة،
وبالرسائل المُزعجة !
وكأن ذلك الاجتماع حول الوالدِين شيء عادي!
وشيء معتاد!
لم أعتقد يومًا أني سأتمنى أني أكسر شاشة هاتفي،
وأُلغي تلك الاتصالات .. إلا حينما فقدت بهجة إلتمام العائلة،
والتأمل في قصصهم التي تُطرح، وفي ضحكاتهم الجميلة ..
وفي النظر والتأمل طويلًا في تجاعيدهم ..
فلا تتنظر إلى أن تُجرب .. ثُمَّ تبدأ بتلك المواثيق والعهود
الزائفة بينك وبين نفسك !
تلك مباهج غالية .. فلا تُفرِّط فيها أرجوك!
.
.
.
كانت من ضمن أجهزتهم الحديثة، أنك تستطيع تشغيل القرآن
من السرير نفسه، فيكون الصوت عالٍ جدًا
يكون عن يمين المريض ويساره
ذهبنا نتسابق الخُطى لرقم الغُرفة لزيارته كالعادة
فإذا ببهجة يومنا قد حَلّت
يا سعدنا اليوم!
ها هو ذا يُردد مع القارئ سورة النَحل، ولا يكاد يُخطئ في الترديد معه..
سُبحان من جعل الدواء في كلامه حينما عجَز الطِبُ..!
قلبٌ تعلق صاحبه بالقُرآن .. مُحال أن يضيع أو يُضيِّعه الله !
والقُرآن لا يترك من لا يتركه !
كان يُردد وهو لايزال في غيبوبته .. سُبحان الله!
ولا يزال أحدنا بعيدًا جدًا عن التداوي بكلام رب البشر سبحانه
ولا يزال أحدنا يبحث عن كُل شيء .. وينسى كلام الله تعالى !
هذا القُرآن العظيم الذي إذا أُنزل على جبل تصدع
فما أكرم الله حينما أكرمنا به
.
.
.
تلك الغرفة التي اعتاد المُمرضين أن يُقلبوا جسده كل يوم،
وكتابة التقرير كل يوم ألَّا جديد ..
كان ذلك اليوم يوم الدهشة
والعطاء
والفرح
والعيد
والسرور
والبُكاء فرحًا
والسجود الطويل
كُتب في التقرير
أن النزيف توقف، و زادت نسبة الوعي، الأطراف تتحرك،
والنُطق سليم، النبضات مؤشراتها سليمة
ضربة الرأس لا تحتاج لتدخل جراحي ..
المريض: سعد يخرج من العناية بعد شهر و ١٠ أيام
إلى التنويم العادي
يا للدهشة !
اللهُ أكبر كيف ذلك !
في غمضة عين كُل ذلك !
ما أعظمه من إله - سبحانه -
ذهبنا لغرفته الجديدة نتسابق الخُطى، والدمع ينهمر من الدهشة
دخل كُل واحد مِنَّا فأخذ يُقبل قدمه، ويده، ورأسه
والكُل يبكي مُتأثرًا
أبي كيف حالك الآن ؟
- الحمد لله كثيرًا، الحمد لله الذي أعادني من الموت ورأيتكم ..
- الحمد لله
وأصبحنا كل يوم نعيش في عِيد
ننتظر أن نصلي العصر حتى نذهب لتلك الغرفة الكبيرة التي تتسع
لنا جميعًا، ونتلذذ بفناجيل القهوة الجميلة بعد أن كُنَّا نتذوقها
باردة الشعور، وننتظر العشاء فنتعشى سويًا
ثُمَّ نستأذنه للخروج ..
.
.
.
الحمد لله لا يستطيع المشي إلا بارتكازه على اثنين عن يمينه وشماله
والنهوض صعب قليلا .. لا بأس
الذاكرة جيِّدة جدًا الحمد لله يتذكر كل شيء.. إلا تفاصيل الحادث
لا يعلم أنهُ هنا لأجل الحادث
لا يعلم أنهُ كان طريح الفراش وفي غيبوبة قُرابة الشهر
لا يعلم أن شريكة حياته كانت معه
لا يعلم بالضجيج الذي حَصل أبدًا
وكان لُطف الله الخفِي في ذلك مُدهشًا !
" وَسِعَ كلَّ شيء رحمةً وعلمًا، وخلَق كلَّ شيء فقدَّره تقديرًا،
وأحصى كلَّ شيء عددًا، ودبَّر خلقَه تدبيرًا، لَطَفَ بما يشاء لما يشاء
إلى ما يشاء، وكان بِخَفِيِّ قدرِه ودقيقِ علمِه ببواطن خلقِه ونفاذِ حكمِه
لطيفًا خبيرًا، لَطَفَ ببصره لحقائق الأحداق فأدركها،
وبسمعه لخفي الأصوات فدقَّقها، وبعلمه لدقيق الخطرات فحقَّقها
كَثُفَ رانُ القلوب، فلَطَفَ بها علَّامُ الغيوب، وما كَثُفَ ضَعُفَ،
وما لَطُفَ عَنُفَ، (لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)
[آلِ عِمْرَانَ: 141]
* د. أحمد طالب بن حميد
.
.
.
طبيعة ابن آدم طمَّاع، يطمع دائمًا في فضل الله ..
إننا نطمع أن يكرمنا به صحيحًا كما في السابق، وأن يُعيد لنا شملنا،
وأُنسنا.. وضحكاتنا
نطمع لأنه القدير القادر سُبحانه ولا يعجزه ذلك
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" كُلما قوي طمعُ العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء
حاجته ودفع ضرورته؛ قويت عبوديّته له، وحريته مما سواه".
وبعد قُرابة الشهر .. يكون التقرير أن يذهب إلى خارج الممكلة
للتأكد من حالته أكثر والاطمئنان عليه
ودعناه بالأمَل، والفرج القريب، والعودة من هناك قريبًا
في أفضل الأحوال
واللهُ أكرم الأكرمين ..
.
.
.
مضى الشهر والشهرين، والبيت موحش ومُظلم، ومشتت أيضًا
أصبحنا نرى وجهه الجميل من خلف ذلك الهاتف،
وليست كُل الأيام تكون الشبكة جيِّدة، فنتأمل أننا سنراه،
فننام تلك الليلة بدون ملامح وجهه، ولا صوت ضحكته،
ولا توصياته نهاية المُكالمة ..
أعتقد أنك الآن تنظر لوجه والديك مباشرة دون الحاجة إلى جهاز
وشبكة قوية لرؤيتهم .. لذلك ردد الحمد كثيرًا أنك لم تُجرب هذا
وأن وجه والديك قريبٌ جدًا منك، وأجسادهم قريبة أيضًا،
تستطيع تقبيض أقدامهما، وتقبيلها، وتُمسك أيديهما وتُقبلهما طويلًا
تستطيع شم رائحتهما الجميلة
تستطيع أن تجلس معهم
الحمد لله
الحمد لله على هذه النِّعم التي كانت تُحيط بنا ففرطنا،
فرطنا بالبر فيها، وفرطنا أيضًا على حمده وشكره،
فلعلها سُلبت منا لأجل ذلك . .
.
.
.
ذهبت والدتي للعُمرة، ولم أستطع الذهاب لعُذر ما ..
فبقيتُ وحدي في هذا البيت الكبير جدًا
مُظلمٌ، وباردٌ أيضًا .. لا أخرج من غرفتهما أبدًا كنت أشعر
أنه المكان الوحيد الذي أشعر فيه بالأمان
لعلك تسأل كيف كنت أستطيع إغماض عيني في خضم هذا الشعور !!
كنت أنتظر طلوع الشمس وصفاء الجو، ثُمَّ يهدأ بالي وأغفو رُغمًا
عني سويعات بسيطة
كان الليل موحشًا جدًا لا أستطيع النوم فيه أبدًا !
فإذا طلعت الشمس انتشر الأمان
﴿قُل أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيكُمُ اللَّيلَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيامَةِ مَن إِلهٌ
غَيرُ اللَّهِ يَأتيكُم بِضِياءٍ أَفَلا تَسمَعونَ﴾ [القصص: ٧١]
فما أعظمه من إله - سبحانه - !
الليل بما فيه موحش جدًا، فتخيَّل لو كان دائمًا !!
لا ضياء، ولا أمان، ولا دفء
كنت أنتظر طلوع الشمس وأبكي أحمد الله تعالى على هذه النعمة
التي لولاها لهلكت من شدة الوحشة
كم من النِّعم الَّتي تُحيط بنا ولا نشعر، شروق الشمس وغروبها
كم اعتدنا عليه !!
ولم يتأمل أحدنا أنَّ لهذه الآيتين نِعم عظيمة علينا،
لو سلبها الله مِنَّا لهلكنا !
الحمد لله
" وإنه لو رزق العبد الدنيا ومافيها ثم قال، الحمدلله
لكان إلهام الله له بالحمد أعظم نعمه من إعطائه له الدنيا؛
ﻷن نعيم الدنيا يزول، وثواب الحمد يبقى
- ابن القيم رحمه الله ..
"ربنا ولك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما،
وملء ما شئت من شيء بعد".
فله سبحانه الحمد حمدًا يملأ المخلوقات والفضاء الذي بين الأرض
والسماوات، ويملأ ما يقدر بعد ذلك مما يشاء الله أن يملأ بحمده.
وإنَّ أسمائه -تبارك وتعالى- أيضًا حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد،
وأحكامه حمد، وعدله في انتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه
إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده
وظهر بحمده، وكان لغاية هي حمده، فحمده سبب ذلك وغايته
ومظهره وحامله، فحمده سبحانه هو روح كل شيء،
وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات،
وظهور آثاره فيه أمر مشهود بالأبصار والبصائر.
فلهُ الحمد كُله وإليه يُرجع الأمر كله ..
.
.
.
٢ / ٦ / ١٤٤١ هـ
ومع بزوغ الفَجر وانتشار الضياء بعد حِلكة الليل وظُلمته والليالي
الطويلة الموحشة والبُكاء الطويل، والفقد الطويل
يقرأ الإمام :
﴿وَإِن يَمسَسكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلّا هُوَ وَإِن يُرِدكَ بِخَيرٍ
فَلا رادَّ لِفَضلِهِ يُصيبُ بِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وَهُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ﴾
[يونس: ١٠٧]
وصل الوالد على بداية الفجر الجميل، ذلك اليوم هو يوم عيدنا
استقبلناه بقلوبنا عند الباب قبل أجسدانا، قبَّلنا تلك الأقدام،
وضممنَا تلك الأيدي
وبكينا كثيرًا
وسجدنا طويلًا
الحمد لله ملء كُل شيء .. عاد صحيحًا، ( كما كان )
كما كان سابقًا
أن تنظر لأحدهم كان طريح الفراش لا يتحرك
ثُمَّ في غضون الستة أشهر، يعود كما كان صحيحًا
وكأنك تنظر لمُعجزة أمامك، ولِقُدرة القوي المتين سُبحانه
عادا كما كانا سابقًا، وأتى رمضَان وصُمناه سويًا،
وعاد علينا عرفة وتلك الدعوات قد استُجيب لنا فيهم
.
.
.
كانت تفاصيلُ موجعة، وأحداثٌ عميقة، ولولا خشية الإطالة
لذكرت تفاصيل التفاصيل، فما ذكرته كان من تفاصيل العموم،
وما خبأته كان أعظم من ذلك ..
ختامًا:
لقد أكرمني الله أن تقرأ لي، وتعيش معي نصف الشعور،
لعلك بكيت معي في تلك المشاعر، وعاتبت نفسك في تلك التوصيات
ولكنِّي أرجو ألا تكون مشاعر لحظيّة، تتأثر بها الآن
ثم تذهب لإسعاد والديك هذه الليلة ثم تمضي بك الحياة وتنسى ...
ولا أستطيع بمقامي المتواضع هذا وعلمي القليل، أن أتكلم عن فضل بر الوالدين، وكيفية الإحسان لهما و .....
لكنِّي أقول لك ( هذه المباهج التي اعتدت عليها
من جلوس بينهما، وإسعادهما، والإحسان لهما،
والنظر لهما .. غالية جدًا، لا تُفرط فيها،
وتذكر أحداث قصتيهذه، وتخيَّل للحظة واحدة أنك فقدتهما،
ماذا عساك أن تقول من مواثيقٍ وعهودٍ لنفسك؟!
" لو عادوا لفعلت وفعلت .... "
أنت الآن في الأُمنية، فبادر، وجاهد، وحاول،
وادعُ الله كثيرًا قبل ذلك )
- الـمرام ☁️
:
جزاك الله خيرا والله أسأل أن يطيل في عمرهما على طاعته ورضاه و أن يوفقنا لبرهما والعنايه بهما
ردحذفأزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذفالحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات ..
ردحذفعشت التفاصيل وآلمني المصاب وسعدت لسعدكم وبكيت معكم وي كأني أحد أفراد أسرتكم ثم إنتهيت بسجدة شكر تخالطها تفاصيل كثيرة قلبك قبل حرفك وصل نفع الله بك ورزقنا العمل وأتم عليهم وعلى والدينا النعم ورزقنا البر والحمد لله كثيرا كما أنعم كثيرا ..
الحمدلله من قبل ومن بعد سرد جميل للأحداث (رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) غفر الله ذنب من مات واطال الله في عمر من بقي ع طاعته والحمدلله الذي من عليكم بسلامة والديكم
ردحذفالحمدلله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه والله يرزقس برهم.. انشهد فقدهم فقد ولاكن جمعنا الله بهم في الفردوس الأعلى من الجنة...
ردحذف